سورة البقرة (25–29): نعيم المتقين وسر الخلق

tafsir al baqara
سورة البقرة (25–29): نعيم المتقين وسر الخلق

في هذا المقطع من سورة البقرة، يكشف الله تعالى عن حقيقتين عظيمتين: نعيم المتقين وسر الخلق، البشارة العظمى لأهل الإيمان والتقوى بالجنة ونعيمها، ثم التذكير بمشهد الخلق الأول للإنسان ودوره في الكون.

إن تدبر هذه الآيات يمنحنا تصورًا شاملًا عن الغاية من وجودنا، وعن المصير الذي ينتظر المؤمنين، ويجعلنا ندرك أن الجنة ليست هدية عشوائية، بل ثمرة للإيمان والعمل الصالح. كما يكشف لنا أن وجود الإنسان على الأرض ليس عبثًا، بل مرتبط بسُنّة الخلق والاستخلاف.

نعيم المتقين وسر الخلق

1- بشارة المتقين: وعد لا يخلف

﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ…﴾

المعنى

الله تعالى يخاطب نبيه ﷺ أن يزف للمؤمنين خبرًا مفرحًا عن الجنة، حيث الأنهار الجارية والثمار الدائمة، والرضا الأبدي.

تحليل لغوي
  • “بشّر”: من الجذر (ب ش ر)، تدل على الإخبار بما يسرّ، وفيها معنى السرور الذي ينعكس على ملامح الوجه.

  • “تجري من تحتها الأنهار”: تصوير لحياة لا تعرف العطش أو الانقطاع.

  • “أزواج مطهّرة”: طهارة في الخَلق والخُلق، خالية من كل عيب أو أذى.

درس واقعي

كما أن العامل المجتهد ينتظر المكافأة بعد جهده، فإن المؤمن يعيش في الدنيا على أمل لقاء ربه في دار النعيم.

2- دوام النعيم وأمن المستقبل

الآية تشير إلى أن ثمار الجنة لا تنفد: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾.
هنا يبرز الفرق بين متع الدنيا المؤقتة، ونعيم الآخرة الدائم.

🔗 في سورة محمد (آية 15) وصف الله الجنة بوجود أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن وخمر وعسل.

3- سر الخلق: تذكير بأصل الإنسان

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾
هنا يرد الله على استهزاء الكافرين بالأمثال القرآنية، مؤكدًا أن الهدف من هذه الأمثال هو إظهار الحقائق بأبسط الصور، حتى لو كانت بمخلوق صغير كالبعوضة.

البعوضة، رغم صغرها، مخلوق معجز في خلقه، له جهاز معقد للبحث عن الدم، وحاسة استشعار حراري، مما يثبت دقة الخلق الإلهي حتى في أصغر المخلوقات.

4- الإيمان واليقين في مواجهة الجحود

المؤمنون إذا سمعوا هذه الأمثال قالوا: ﴿هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا﴾، بينما الكافرون يسألون: ما الحكمة من هذا؟
الفرق بينهما هو الثقة في وعود الله.

5- التذكير بنعمة الخلق والاستخلاف

﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ…﴾
هنا يذكّرنا الله بدورة الحياة:

  1. العدم (قبل الخلق)

  2. الحياة في الدنيا

  3. الموت

  4. البعث للحساب

ورد معنى مشابه في سورة المؤمنون (آية 12–14) عند ذكر مراحل خلق الإنسان من تراب إلى علقة إلى مضغة.

6- مشهد الكون الخاضع لله

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا…﴾
كل ما في الأرض، من جبال وبحار ومعادن ونباتات، مهيأ لخدمة الإنسان في رحلته للاستخلاف.

7- إسقاطات معاصرة

  • في زمن التكنولوجيا، مفهوم نعيم المتقين يشمل الأمان الروحي وسط ضغوط الحياة الرقمية.

  • سر الخلق يذكرنا بأهمية البحث العلمي لفهم عظمة الكون.

  • استحضار أننا مخلوقون لغاية يعطينا مناعة ضد الفراغ الوجودي المنتشر بين الشباب.

8- الدروس المستفادة

  1. الجنة وعد صادق لمن تمسك بالإيمان والعمل الصالح.

  2. أمثال القرآن وسيلة لتوضيح الحقائق لكل العقول.

  3. الخلق الإلهي دقيق ومقصود، لا مجال للعبثية.

  4. الاستخلاف مسؤولية تتطلب العلم والعدل.

  5. المؤمن يرى في كل شيء آية من آيات الله.

إن الآيات (25–29) من سورة البقرة تقدم لوحة متكاملة: من الوعد بالجنة إلى التذكير بسر الخلق. وهي رسالة متجددة لكل إنسان يبحث عن المعنى: أن يعيش بالتقوى، ويدرك أن كل ما حوله مخلوق ليمده بالقوة لأداء مهمته على الأرض.

فمن أراد نعيم المتقين، فليثبت على طريق الإيمان، وليستحضر دائمًا أنه خُلق لغاية أسمى من العيش المادي.

التفسير الميسر

تفسير سورة البقرة (25-29)

وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

وأخبر -أيها الرسول- أهل الإيمان والعمل الصالح خبرًا يملؤهم سرورًا, بأن لهم في الآخرة حدائق عجيبة, تجري الأنهار تحت قصورها العالية وأشجارها الظليلة. كلَّما رزقهم الله فيها نوعًا من الفاكهة اللذيذة قالوا: قد رَزَقَنا الله هذا النوع من قبل, فإذا ذاقوه وجدوه شيئًا جديدًا في طعمه ولذته, وإن تشابه مع سابقه في اللون والمنظر والاسم. ولهم في الجنَّات زوجات مطهَّرات من كل ألوان الدنس الحسيِّ كالبول والحيض, والمعنوي كالكذب وسوء الخُلُق. وهم في الجنة ونعيمها دائمون, لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26)

إن الله تعالى لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئًا ما, قلَّ أو كثر, ولو كان تمثيلا بأصغر شيء, كالبعوضة والذباب ونحو ذلك, مما ضربه الله مثلا لِعَجْز كل ما يُعْبَد من دون الله. فأما المؤمنون فيعلمون حكمة الله في التمثيل بالصغير والكبير من خلقه, وأما الكفار فَيَسْخرون ويقولون: ما مراد الله مِن ضَرْب المثل بهذه الحشرات الحقيرة؟ ويجيبهم الله بأن المراد هو الاختبار, وتمييز المؤمن من الكافر; لذلك يصرف الله بهذا المثل ناسًا كثيرين عن الحق لسخريتهم منه, ويوفق به غيرهم إلى مزيد من الإيمان والهداية. والله تعالى لا يظلم أحدًا; لأنه لا يَصْرِف عن الحق إلا الخارجين عن طاعته.

الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (27)

الذين ينكثون عهد الله الذي أخذه عليهم بالتوحيد والطاعة, وقد أكَّده بإرسال الرسل, وإنزال الكتب, ويخالفون دين الله كقطع الأرحام ونشر الفساد في الأرض, أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

كيف تنكرون -أيُّها المشركون- وحدانية الله تعالى, وتشركون به غيره في العبادة مع البرهان القاطع عليها في أنفسكم؟ فلقد كنتم أمواتًا فأوجدكم ونفخ فيكم الحياة, ثم يميتكم بعد انقضاء آجالكم التي حددها لكم, ثم يعيدكم أحياء يوم البعث, ثم إليه ترجعون للحساب والجزاء.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

اللهُ وحده الذي خَلَق لأجلكم كل ما في الأرض من النِّعم التي تنتفعون بها, ثم قصد إلى خلق السموات, فسوَّاهنَّ سبع سموات, وهو بكل شيء عليم. فعِلْمُه -سبحانه- محيط بجميع ما خلق

المختصر في تفسير القرآن

تفسير سورة البقرة (25-29)

25 – وإذا كان الوعيد السابق للكافرين؛ فبشِّر -أيها النبي- المؤمنين بالله الذين يعملون الصالحات؛ بما يسرُّهم من جنات تجري الأنهار من تحت قصورها وأشجارها، كلما أُطعموا من ثمارها الطيبة رزقًا؛ قالوا من شدة الشّبَهِ بثمار الدنيا: هذا مثل الثمار التي رزقنا من قبل، وقُدمت لهم ثمار متشابهة في شكلها واسمها حتَّى يُقْبلُوا عليها بحكم المعرفة بها، ولكنها مختلفة في طَعمها ومذاقها، ولهم في الجنّة أزواج مبرَّأة من كل ما تنفر منه النفس، ويُسْتَقْذَر طبعًا مما يُتَصَوَّر في أهل الدنيا، وهم في نعيم دائم لا ينقطع، بخلاف نعيم الدنيا المنقطع.

26 – إن الله سبحانه وتعالى: لا يستحي من ضرب الأمثال بما شاء، فيضرب المثل بالبعوضة، فما فوقها في الكِبَر أو دونها في الصِّغَر، والناس أمام هذا نوعان: مؤمنون وكافرون، فأما المؤمنون فيصدقون ويعلمون أن من وراء ضرب المثل بها حكمة، وأما الكافرون فيتساءلون على سبيل الاستهزاء عن سبب ضرب الله الأمثال بهذه المخلوقات الحقيرة؛ كالبعوض، والذباب، والعنكبوت، وغيرها، فيأتي الجواب من الله: إن في هذه الأمثال هداياتٍ وتوجيهاتٍ واختبارًا للناس، فمنهم من يضلُّهم الله بهذه الأمثال لإعراضهم عن تدبرها، وهم كثير، ومنهم من يهديهم بسبب اتعاظهم بها، وهم كثير، ولا يضل إلا من كان مستحقًّا للضلال، وهم الخارجون عن طاعته؛ كالمنافقين.

27 – الذين ينقضون عهد الله الذي أخذه عليهم بعبادته وحده واتباع رسوله الَّذي أخبرت به الرسل قبله. هؤلاء الذين يتنكرون لعهود الله يتصفون بأنهم يقطعون ما أمر الله بوصله كالأرحام، ويسعون لنشر الفساد في الأرض بالمعاصي، فهؤلاء هم الناقصة حظوظهم في الدنيا والآخرة.

28 – إن أمركم -أيها الكفار- لعجب! كيف تكفرون بالله، وأنتم تشاهدون دلائل قدرته في أنفسكم، فقد كنتم عدمًا لا شيء، فأنشأكم وأحياكم، ثم هو يميتكم الموتة الثانية، ثم يحييكم الحياة الثانية، ثم يرجعكم إليه ليحاسبكم على ما قدمتم.
29 – والله وحده الَّذي خلق لكم جميع ما في الأرض من أنهار وأشجار وغير ذلك مما لا يُحْصَى عدده، وأنتم تنتفعون به وتستمتعون بما سخَّره لكم، ثم ارتفع على السماء فخلقهن سبع سماوات مستويات، وهو الَّذي أحاط علمه بكل شيء.

[مِنْ فَوَائِدِ الآيَاتِ]
• من كمال النعيم في الجنّة أن ملذاتها لا يكدرها أي نوع من التنغيص، ولا يخالطها أي أذى.
• الأمثال التي يضربها الله تعالى لا ينتفع بها إلا المؤمنون؛ لأنهم هم الذين يريدون الهداية بصدق، ويطلبونها بحق.
• من أبرز صفات الفاسقين نقضُ عهودهم مع الله ومع الخلق، وقطعُهُم لما أمر الله بوصله، وسعيُهُم بالفساد في الأرض.
• الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة؛ لأن الله تعالى امتنَّ على عباده بأن خلق لهم كل ما في الأرض.

تفسير السعدي

تفسير سورة البقرة (25-29)

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 25 ) .

لما ذكر جزاء الكافرين, ذكر جزاء المؤمنين, أهل الأعمال الصالحات, على طريقته تعالى في القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب, ليكون العبد راغبا راهبا, خائفا راجيا فقال: ( وَبَشِّرِ ) أي: [ يا أيها الرسول ومن قام مقامه ] ( الَّذِينَ آمَنُوا ) بقلوبهم ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) بجوارحهم, فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة.

ووصفت أعمال الخير بالصالحات, لأن بها تصلح أحوال العبد, وأمور دينه ودنياه, وحياته الدنيوية والأخروية, ويزول بها عنه فساد الأحوال, فيكون بذلك من الصالحين, الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.
فبشرهم ( أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ) أي: بساتين جامعة من الأشجار العجيبة, والثمار الأنيقة, والظل المديد, [ والأغصان والأفنان وبذلك ] صارت جنة يجتن بها داخلها, وينعم فيها ساكنها.
( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي: أنهار الماء, واللبن, والعسل, والخمر، يفجرونها كيف شاءوا, ويصرفونها أين أرادوا, وتشرب منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار.

( كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ) أي: هذا من جنسه, وعلى وصفه, كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس فيها ثمرة خاصة, وليس لهم وقت خال من اللذة, فهم دائما متلذذون بأكلها.
وقوله: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) قيل: متشابها في الاسم, مختلف الطعوم وقيل: متشابها في اللون, مختلفا في الاسم، وقيل: يشبه بعضه بعضا, في الحسن, واللذة, والفكاهة, ولعل هذا الصحيح .

ثم لما ذكر مسكنهم, وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم, ذكر أزواجهم, فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه, وأوضحه فقال: ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ) فلم يقل « مطهرة من العيب الفلاني » ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق, مطهرات الخلق, مطهرات اللسان, مطهرات الأبصار، فأخلاقهن, أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن, وحسن التبعل, والأدب القولي والفعلي, ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني, والبول والغائط, والمخاط والبصاق, والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضا, بكمال الجمال, فليس فيهن عيب, ولا دمامة خلق, بل هن خيرات حسان, مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن, وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح.

ففي هذه الآية الكريمة, ذكر المبشِّر والمبشَّر, والمبشَّر به, والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر: هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر: هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به: هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك, هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة, إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة, على يد أفضل الخلق, بأفضل الأسباب.
وفيه استحباب بشارة المؤمنين, وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها [ وثمراتها ] , فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان, توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن يجعلنا منهم .

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ( 26 ) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 27 ) .

يقول تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا ) أي: أيَّ مثل كان ( بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) لاشتمال الأمثال على الحكمة, وإيضاح الحق, والله لا يستحيي من الحق، وكأن في هذا, جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة، واعترض على الله في ذلك. فليس في ذلك محل اعتراض. بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر. ولهذا قال: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) فيتفهمونها، ويتفكرون فيها.
فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة.

( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا ) فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ولهذا قال: ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية. قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [ وضلالة ] وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة [ ورحمة ] وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال.

ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى فقال: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) أي: الخارجين عن طاعة الله; المعاندين لرسل الله; الذين صار الفسق وصفهم; فلا يبغون به بدلا فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة.
والفسق نوعان: نوع مخرج من الدين، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان; كالمذكور في هذه الآية ونحوها، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [ الآية ] .

ثم وصف الفاسقين فقال: ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه والذي بينهم وبين عباده الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق.
( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب; وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نصلها.

فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين عنها بالفسق والقطيعة; والعمل بالمعاصي; وهو: الإفساد في الأرض.
فـ ( فَأُولَئِكَ ) أي: من هذه صفته ( هُمُ الْخَاسِرُونَ ) في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم; لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع من الربح؛ لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له لا عمل له; وهذا الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا; وقد يكون معصية; وقد يكون تفريطا في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى: إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ فهذا عام لكل مخلوق; إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح; والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير; الذي [ كان ] العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه.

ثم قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 28 ) .

هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار، أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله; الذي خلقكم من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم; ثم يميتكم عند استكمال آجالكم; ويجازيكم في القبور; ثم يحييكم بعد البعث والنشور; ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه; وتدبيره; وبره; وتحت أوامره الدينية; ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي; أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابه.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 29 ) .

( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ) أي: خلق لكم, برا بكم ورحمة, جميع ما على الأرض, للانتفاع والاستمتاع والاعتبار.
وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة, لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث, فإن [ تحريمها أيضا ] يؤخذ من فحوى الآية, ومعرفة المقصود منها, وأنه خلقها لنفعنا, فما فيه ضرر, فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمته, منعنا من الخبائث, تنزيها لنا.

وقوله: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .
( اسْتَوَى ) ترد في القرآن على ثلاثة معاني: فتارة لا تعدى بالحرف، فيكون معناها, الكمال والتمام, كما في قوله عن موسى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى وتارة تكون بمعنى « علا » و « ارتفع » وذلك إذا عديت بـ « على » كما في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ وتارة تكون بمعنى « قصد » كما إذا عديت بـ « إلى » كما في هذه الآية، أي: لما خلق تعالى الأرض, قصد إلى خلق السماوات ( فسواهن سبع سماوات ) فخلقها وأحكمها, وأتقنها, ( وهو بكل شيء عليم ) فـ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا و يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ يعلم السر وأخفى.

وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية, وكما في قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ لأن خلقه للمخلوقات, أدل دليل على علمه, وحكمته, وقدرته.


المؤمن لا ينتظر الجنة فقط، بل يعيش بروحها في الدنيا: طهارة، أمل، وإيمان دائم بلقاء الله.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“في الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر”

(رواه البخاري ومسلم)

من لم يُبَشَّر في قلبه بلقاء الله، فلن يُبشَّر يوم القيامة بجنة الله.


تابع معنا رحلة التدبر من سورة إلى أخرى…


كل آية في كتاب الله هي باب نور وهداية، وكل تفسير يقربنا خطوة نحو الفهم العميق لحكمة الله.
لا تفوّت المقال التالي من سلسلة التفسير القرآني، وكن من أهل القرآن قلبًا وعقلاً.

للاطلاع على جميع المقالات في هذا التصنيف، اضغط هنا

ولتعميق تجربتك، زر قناتنا على اليوتيوب “نور وهدى” واشترك لمتابعة كل جديد:
زيارة القناة

🔹 للاستماع إلى سورة البقرة بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد (تجويد وترتيل):
اضغط هنا أو استمع من هنا

🔹 للاستماع إلى سورة البقرة بصوت الشيخ سعد الغامدي (تجويد وترتيل):
اضغط هنا أو استمع من هنا

🔹 القرآن كاملًا بصوت عبد الباسط عبد الصمد

🔹القرآن كاملًا بصوت سعد الغامدي

تابعونا على قناتنا الرسمية “نور وهدى” على اليوتيوب

ندعوكم لزيارة قناتنا “نور وهدى” التي أعددناها خصيصًا لنشر النور الرباني والمعرفة الإيمانية.

تجدون فيها:

  • القرآن الكريم كاملًا بصوت الشيخين عبد الباسط عبد الصمد وسعد الغامدي

  • برامج متميزة مثل “شرعة ومنهاج” لعبد العزيز الطريفي، و“الأمثال القرآنية” لمحمد صالح المنجد

  • خطب الجمعة، وفيديوهات دعوية وتنويرية تلامس القلوب والعقول

  • سلسلة “من الظلمات إلى النور”: قصص دخول غير المسلمين إلى الإسلام

🔔 ندعوكم للاشتراك وتفعيل الجرس لتكونوا معنا في رحلة النور والهدى والعلم.

 زيارة القناة على اليوتيوب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *