الفهرس
Toggle
تُقدِّم الآيات (17–24) من سورة البقرة تصويرًا قرآنيًا بديعًا لحال المنافقين، مستخدمةً أبلغ الصور البلاغية والأمثال الحية التي تكشف حقيقتهم الداخلية، وتوضح تناقضهم بين الظاهر والباطن. وفي ثنايا هذا المشهد، يأتي التحدي الأبدي من الله للبشرية كافة بأن يأتوا بسورة من مثل القرآن، وهو تحدٍّ لا يزال قائمًا منذ أربعة عشر قرنًا.
إن فهم صور المنافقين والتحدي الأبدي في هذه الآيات لا يقتصر على معرفة تاريخ نزولها، بل يمتد إلى إسقاطاتها في حياتنا المعاصرة، حيث تتكرر أنماط النفاق الفكري والديني، ويظل التحدي القرآني قائمًا في مواجهة كل محاولات التشكيك في الوحي.
1- الصورة الأولى: المنافق والنار التي تنطفئ
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا…﴾ (البقرة: 17)
المعنى
يشبّه الله المنافقين برجل أوقد نارًا ليستضيء بها، فلما أضاءت ما حوله انطفأت، تاركةً إياه في ظلمات لا يبصر فيها شيئًا.
النار هنا ترمز إلى الإيمان الظاهري الذي اقتبسوه حين اختلطوا بالمؤمنين.
الظلمات تمثل الضلال والحيرة بعد انطفاء نور الإيمان من قلوبهم.
التحليل اللغوي
استوقد: طلب الإيقاد، إشارة إلى أن النور لم يكن منهم ابتداءً.
ذهب الله بنورهم: حذف الضوء وأبقى الإحراق، كناية عن ضياع المنفعة وبقاء الضرر.
2- الصورة الثانية: المطر والرعد والبرق
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ…﴾ (البقرة: 19)
المعنى
يشبه القرآن المنافقين بقوم أصابهم مطر شديد في ليلة مظلمة، فيه رعد وبرق، فيسدّون آذانهم خوفًا من الصواعق، لكن البرق يكاد يخطف أبصارهم.
الصيّب: المطر الغزير، إشارة إلى الوحي بما يحمله من حقائق وأوامر ونواهٍ.
الرعد والبرق: ما في الوحي من تحذير ووعيد للمخالفين، ونور وهداية للمؤمنين.
البعد النفسي للصورة
المنافق يتقلب بين لحظات انبهار بالحق (عند وميض البرق) وبين الخوف والصد (عند سماع الرعد)، فلا هو ثابت على الإيمان ولا هو صريح في الكفر.
3- الرابط بين الصورتين
كلتا الصورتين تكشفان انقطاع الصلة الحقيقية بالمصدر الإلهي للنور والهداية، وأن الإيمان الذي لا يستقر في القلب مصيره الانطفاء أو الاضطراب.
4- الانتقال إلى التحدي الأبدي
بعد تصوير النفاق، يأتي التحدي المباشر:
﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا…﴾ (البقرة: 23)
طبيعة التحدي
الله يتحدى البشر جميعًا أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن إن كانوا يزعمون أنه من غير عند الله.
التحدي موجّه للجميع: عربًا وعجمًا، متقدمين ومتأخرين، بلغاء وغير بلغاء.
التحدي قائم عبر الزمن: لم يستطع أحد الإتيان بمثله، ولا حتى بسورة قصيرة تضاهيه في بلاغته وتشريعه وأثره.
رابط لغوي وبلاغي
“عبدنا”: إضافة تشريف للنبي ﷺ، وفيها إشارة إلى أن العبودية لله أرفع مراتب الشرف.
“فادعوا شهداءكم”: دعوة صريحة للاستعانة بكل البشر والجن إن استطاعوا.
5- ارتباط الصور بالتحدي
ذكر صور المنافقين قبل التحدي الأبدي ليس عبثًا، بل يذكّر أن من يعاند النور الإلهي قد يكون دافعه النفاق أو الشك، بينما الطريق إلى اليقين هو مواجهة الحقيقة بدلًا من التهرب منها.
6- إسقاطات معاصرة
صور المنافقين اليوم قد تظهر فيمن يرفع شعارات الدين للمنفعة الشخصية دون التزام حقيقي.
التحدي القرآني لا يزال حاضرًا أمام موجات التشكيك والإلحاد، حيث يبقى القرآن فريدًا في بيانه وتشريعه.
في الإعلام الحديث، يستخدم البعض “الانتقائية” في النصوص كما كان المنافقون ينتقون ما يوافق أهواءهم ويتركون ما يخالفها.
7- ارتباط بالقرآن كله
في سورة النساء (آية 142): ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ…﴾
وفي سورة التوبة (آية 77): ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ…﴾
هذه الآيات تؤكد أن النفاق مرض قلبي يزداد إذا لم يُعالج بالإيمان الصادق.
8- لدروس المستفادة
النفاق آفة قديمة تتكرر بصور جديدة في كل عصر.
الإيمان الصادق يحتاج ثباتًا، لا يكفي فيه الانبهار اللحظي بالحق.
التحدي القرآني حجة قائمة على صدق الوحي.
الأمثال القرآنية تفتح نافذة لفهم المعاني العميقة.
الثبات أمام الشبهات سلاح ضد النفاق والشرك.
آيات (17–24) من سورة البقرة ترسم لوحتين بلاغيتين لحال المنافقين، ثم تعلن التحدي الإلهي الخالد. وبين الصورتين رابط معنوي هو أن القلب المريض لا يستطيع مواجهة النور الكامل للوحي، بينما من يملك قلبًا سليمًا يجد فيه الهداية والأمان.
إن صور المنافقين والتحدي الأبدي ليست مجرد مشاهد تاريخية، بل حقائق متجددة تدعونا لمراجعة إيماننا، والتأمل في إعجاز القرآن الذي يبقى فوق كل كلام البشر.
التفسير الميسر
تفسير سورة البقرة (17-24)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)
حال المنافقين الذين آمنوا -ظاهرًا لا باطنًا- برسالة محمد صلى الله عليه وسلم, ثم كفروا, فصاروا يتخبطون في ظلماتِ ضلالهم وهم لا يشعرون, ولا أمل لهم في الخروج منها, تُشْبه حالَ جماعة في ليلة مظلمة, وأوقد أحدهم نارًا عظيمة للدفء والإضاءة, فلما سطعت النار وأنارت ما حوله, انطفأت وأعتمت, فصار أصحابها في ظلمات لا يرون شيئًا, ولا يهتدون إلى طريق ولا مخرج.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
هم صُمٌّ عن سماع الحق سماع تدبر, بُكْم عن النطق به, عُمْي عن إبصار نور الهداية; لذلك لا يستطيعون الرجوع إلى الإيمان الذي تركوه, واستعاضوا عنه بالضلال.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
أو تُشْبه حالُ فريق آخر من المنافقين يظهر لهم الحق تارة, ويشكون فيه تارة أخرى, حالَ جماعة يمشون في العراء, فينصب عليهم مطر شديد, تصاحبه ظلمات بعضها فوق بعض, مع قصف الرعد, ولمعان البرق, والصواعق المحرقة, التي تجعلهم من شدة الهول يضعون أصابعهم في آذانهم; خوفًا من الهلاك. والله تعالى محيط بالكافرين لا يفوتونه ولا يعجزونه.
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
يقارب البرق -من شدة لمعانه- أن يسلب أبصارهم, ومع ذلك فكلَّما أضاء لهم مشَوْا في ضوئه, وإذا ذهب أظلم الطريق عليهم فيقفون في أماكنهم. ولولا إمهال الله لهم لسلب سمعهم وأبصارهم, وهو قادر على ذلك في كل وقتٍ, إنه على كل شيء قدير.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
نداء من الله للبشر جميعًا: أن اعبدوا الله الذي ربَّاكم بنعمه, وخافوه ولا تخالفوا دينه; فقد أوجدكم من العدم, وأوجد الذين من قبلكم; لتكونوا من المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
ربكم الذي جعل لكم الأرض بساطًا; لتسهل حياتكم عليها, والسماء محكمة البناء, وأنزل المطر من السحاب فأخرج لكم به من ألوان الثمرات وأنواع النبات رزقًا لكم, فلا تجعلوا لله نظراء في العبادة, وأنتم تعلمون تفرُّده بالخلق والرزق, واستحقاقِه العبودية.
وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (23)
وإن كنتم -أيها الكافرون المعاندون- في شَكٍّ من القرآن الذي نَزَّلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم, وتزعمون أنه ليس من عند الله, فهاتوا سورة تماثل سورة من القرآن, واستعينوا بمن تقدرون عليه مِن أعوانكم, إن كنتم صادقين في دعواكم.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
فإن عجَزتم الآن -وستعجزون مستقبلا لا محالة- فاتقوا النار بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى. هذه النار التي حَطَبُها الناس والحجارة, أُعِدَّتْ للكافرين بالله ورسله
المختصر في تفسير القرآن
تفسير سورة البقرة (17-24)
17 – ضرب الله لهؤلاء المنافقين مثلين: مثلًا ناريًّا، ومثلًا مائيًّا، فأما مثلهم الناري: فهم كمثل من أوقد نارًا ليستضيء بها، فلما سطع نورها وظن أنَّه ينتفع بضوئها خمدت، فذهب ما فيها من إشراق، وبقي ما فيها من إحراق، فبقي أصحابها في ظلمات لا يرون شيئًا، ولا يهتدون سبيلًا.
18 – فهم صمٌّ لا يسمعون الحق سماع قبول، بُكْمٌ لا ينطقون به، عمي عن إبصاره، فلا يرجعون عن ضلالهم.
19 – وأما مثلهم المائي: فهم كمثل مطر كثير، من سحاب فيه ظلمات متراكمة ورعد وبرق، نزل على قوم فأصابهم ذعر شديد، فجعلوا يسدُّون آذانهم بأطراف أصابعهم، من شدة صوت الصواعق خوفًا من الموت، والله محيط بالكافرين لا يعجزونه.
20 – يكاد البرق من شدة لمعانه وسطوعه يأخذ أبصارهم، كلما ومض البرق لهم وأضاء تقدموا، وإذا لم يضئ بقوا في الظلام، فلم يستطيعوا التحرك، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم بقدرته الشاملة لكل شيء؛ فلا تعود إليهم؛ لإعراضهم عن الحق. فكان المطر مثلًا للقرآن، وصوت الصواعق مثلًا لما فيه من الزواجر، وضوء البرق مثلًا لظهور الحق لهم أحيانًا، وجعل سد الآذان من شدة الصواعق، مثلًا لإعراضهم عن الحق وعدم الاستجابة له، ووجه الشبه بين المنافقين وأصحاب المَثَلَين؛ هو عدم الاستفادة، ففي المثل الناري: لم يستفد مستوقدها غير الظلام والإحراق، وفي المثل المائي: لم يستفد أصحاب المطر إلا ما يروِّعهم ويزعجهم من الرعد والبرق، وهكذا المنافقون لا يرون في الإسلام إلا الشدة والقسوة.
ولما ذكر الله أنواع الناس من مؤمنين وكافرين ومنافقين؛ ناداهم جميعًا داعيًا إياهم إلى إفراده بالعبادة، فقال:
21 – يا أيها الناس اعبدوا ربكم وحده دون سواه؛ لأنه الَّذي خلقكم وخلق الأمم السابقة لكم، رجاء أن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية؛ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
22 – فهو الَّذي جعل لكم الأرض بساطًا ممهدًا، وجعل السماء من فوقها مُحكمة البنيان، وهو المنعم بإنزال المطر، فأنبت به مختلف الثمار من الأرض، لتكون رزقًا، فلا تجعلوا لله شركاء وأمثالا وأنتم تعلمون أنَّه لا خالق إلا الله عز وجل.
23 – وإن كنتم -يا أيها الناس- في شك من القرآن المُنزل على عبدنا محمد – صلى الله عليه وسلم -، فنتحداكم أن تعارضوه بالإتيان بسورة واحدة مماثلة له، ولو كانت أقصر سورة منه، ونادوا من استطعتم من أنصاركم إن كنتم صادقين فيما تدَّعونه.
24 – فإن لم تفعلوا ذلك -ولن تقدروا عليه أبدًا- فاتقوا النار التي توقد بالناس المستحقين للعذاب، وبأنواع الحجارة مما كانوا يعبدونه وغيرها، هذه النار قد أعدها الله وهيأها للكافرين.
[مِنْ فَوَائِدِ الآيَاتِ]
• أن الله تعالى يخذل المنافقين في أشد أحوالهم حاجة وأكثرها شدة؛ جزاء نفاقهم وإعراضهم عن الهدى.
• من أعظم الأدلة على وجوب إفراد الله بالعبادة أنَّه تعالى هو الَّذي خلق لنا ما في الكون وجعله مسخَّرًا لنا.
• عجز الخلق عن الإتيان بمثل سورة من القرآن الكريم يدل على أنَّه تنزيل من حكيم عليم.
تفسير السعدي
تفسير سورة البقرة (17-24)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ( 17 ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 ) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 ) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 ) .
أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا، أي: كان في ظلمة عظيمة, وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره, ولم تكن عنده معدة, بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله, ونظر المحل الذي هو فيه, وما فيه من المخاوف وأمنها, وانتفع بتلك النار, وقرت بها عينه, وظن أنه قادر عليها, فبينما هو كذلك, إذ ذهب الله بنوره, فذهب عنه النور, وذهب معه السرور, وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة, فذهب ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة بعد النور, فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون, استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين, ولم تكن صفة لهم, فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم, وسلمت أموالهم, وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت, فسلبهم الانتفاع بذلك النور, وحصل لهم كل هم وغم وعذاب, وحصل لهم ظلمة القبر, وظلمة الكفر, وظلمة النفاق, وظلم المعاصي على اختلاف أنواعها, وبعد ذلك ظلمة النار [ وبئس القرار ] .
فلهذا قال تعالى [ عنهم ] : ( صُمٌّ ) أي: عن سماع الخير، ( بُكْمٌ ) [ أي ] : عن النطق به، ( عُمْيٌ ) عن رؤية الحق، ( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه, فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال, فإنه لا يعقل, وهو أقرب رجوعا منهم.
ثم قال تعالى: ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ) يعني: أو مثلهم كصيب، أي: كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب, أي: ينزل بكثرة، ( فِيهِ ظُلُمَاتٌ ) ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمات المطر، ( وَرَعْدٌ ) وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، ( وَبَرْقٌ ) وهو الضوء [ اللامع ] المشاهد مع السحاب.
( كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ ) البرق في تلك الظلمات ( مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) أي: وقفوا.
فهكذا حال المنافقين, إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده, جعلوا أصابعهم في آذانهم, وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده, فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم, ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد, ويجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت, فهذا تمكن له السلامة. وأما المنافقون فأنى لهم السلامة, وهو تعالى محيط بهم, قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه, بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها أتم الجزاء.
ولما كانوا مبتلين بالصمم, والبكم, والعمى المعنوي, ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ) أي: الحسية, ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم، ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض.
وفي هذه الآية وما أشبهها, رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى, لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله: ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
هذا أمر عام لكل الناس, بأمر عام, وهو العبادة الجامعة, لامتثال أوامر الله, واجتناب نواهيه, وتصديق خبره, فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ .
ثم استدل على وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم, فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين من قبلكم, وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم, وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم, كالشمس, والقمر, والنجوم.
( وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) والسماء: [ هو ] كل ما علا فوقك فهو سماء, ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب، فأنزل منه تعالى ماء، ( فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) كالحبوب, والثمار, من نخيل, وفواكه, [ وزروع ] وغيرها ( رِزْقًا لَكُمْ ) به ترتزقون, وتقوتون وتعيشون وتفكهون.
( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ) أي: نظراء وأشباها من المخلوقين, فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبون الله, وهم مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون, لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب, وأسفه السفه.
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه, وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته, وبطلان عبادة من سواه, وهو [ ذكر ] توحيد الربوبية, المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك, فكذلك فليكن إقراره بأن [ الله ] لا شريك له في العبادة, وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك.
وقوله تعالى: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) يحتمل أن المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى, وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة, كان من المتقين، ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه. ثم قال تعالى:
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال: ( وإن كنتم ) معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [ جلي ] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [ والشدة ] , أن كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.
وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا .
وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [ بأنواع ] الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم.
وفي قوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: [ هو ] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق.
وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه.
وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في الغالب أنه لا يوفق.
وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.
كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ وفي مقام الإنزال، فقال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ .
وفي قوله: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) فلو كان [ عصاة الموحدين ] يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة.
وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها.
من لم تنفتح بصيرته أمام هذا التحدي الإلهي، فليعلم أن الغشاوة ليست في النص، بل في قلبه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“ما من نبي من الأنبياء إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الذي أوتيتُه وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة”
(رواه البخاري)
أعظم منجز في حياة الإنسان ليس أن يرد على التحدي، بل أن يذعن أمام الحق ويتبعه بقلبٍ خاشع.
تابع معنا رحلة التدبر من سورة إلى أخرى…
كل آية في كتاب الله هي باب نور وهداية، وكل تفسير يقربنا خطوة نحو الفهم العميق لحكمة الله.
لا تفوّت المقال التالي من سلسلة التفسير القرآني، وكن من أهل القرآن قلبًا وعقلاً.
للاطلاع على جميع المقالات في هذا التصنيف، اضغط هنا
ولتعميق تجربتك، زر قناتنا على اليوتيوب “نور وهدى” واشترك لمتابعة كل جديد:
زيارة القناة
للاستماع إلى سورة البقرة بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد (تجويد وترتيل):
اضغط هنا أو استمع من هنا
للاستماع إلى سورة البقرة بصوت الشيخ سعد الغامدي (تجويد وترتيل):
اضغط هنا أو استمع من هنا
تابعونا على قناتنا الرسمية “نور وهدى” على اليوتيوب
ندعوكم لزيارة قناتنا “نور وهدى” التي أعددناها خصيصًا لنشر النور الرباني والمعرفة الإيمانية.
تجدون فيها:
القرآن الكريم كاملًا بصوت الشيخين عبد الباسط عبد الصمد وسعد الغامدي
برامج متميزة مثل “شرعة ومنهاج” لعبد العزيز الطريفي، و“الأمثال القرآنية” لمحمد صالح المنجد
خطب الجمعة، وفيديوهات دعوية وتنويرية تلامس القلوب والعقول
سلسلة “من الظلمات إلى النور”: قصص دخول غير المسلمين إلى الإسلام
🔔 ندعوكم للاشتراك وتفعيل الجرس لتكونوا معنا في رحلة النور والهدى والعلم.


